بقلم : محمد عتابي
على الرغم من شراسة الصراع الحالي بين الولايات المتحدة وروسيا، على الأراضي الأوكرانية، إلا أن ثمة هدفا مشتركا بين الخصمين التاريخيين، يتجلى بوضوح في "تفتيت أوروبا الموحدة"، ففي الوقت الذي تسعى فيه موسكو إلى وقف تمدد الناتو والاتحاد الأوروبي، إلى مناطق تمثل عمقها الاستراتيجي، نجد أن هناك تحركات أمريكية واضحة تقوم في الأساس على إضعاف التكتل القاري، بعدما تحول من كيان مستأنس، يتوقف دوره على الدوران في فلك واشنطن، و"شرعنة" رؤيتها الدولية، إلى مشروع قوى دولية يمكنها تحقيق الهيمنة والنفوذ على حساب الحليف الأمريكي، خلال سنوات ما بعد الحرب الباردة، وهو ما بدا في الطموحات الكبيرة لدى القوى الرئيسية في أوروبا الغربية، وعلى رأسها ألمانيا، والتي كانت بمثابة القائد الفعلي للقارة العجوز، خلال سنوات المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، ثم فرنسا الطامحة للعودة إلى مكانتها الدولية، في عهد الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون..
ولعل الموقف الأمريكي تجاه أوروبا الموحدة، ليس بالأمر الجديد تماما، حيث بدأ الاستهداف الأمريكي للاتحاد الأوروبي، خلال حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب، والذي كان أكبر الداعمين لخروج بريطانيا، بينما مارس ضغوطا كبيرة حتى لا يكون خروجا "ناعما"، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى استقالة رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي، وقدوم بوريس جونسون، والمعروف بمواقفه المتشددة تجاه الكيان المشترك، لخلافتها، بمباركة واشنطن، لتضع الولايات المتحدة بذلك "المسمار" الأول في نعش الاتحاد الأوروبي.
إلا أن الاستهداف الأمريكي الممنهج للاتحاد الأوروبي لم يتوقف عند نهاية حقبة ترامب، بينما امتد خلال عهد خليفته جو بايدن، وإن كان ذلك بطريقة ناعمة، حيث بات يعتمد على بريطانيا "المتمردة"، على حساب أنصار الوحدة الأوروبية، في حين اتجه نحو الشرق مؤخرا، عبر التقارب مع بولندا، والمجر، والسويد وفنلندا، وهي الدول والتي وإن كانت تحمل في جعبتها عضوية الاتحاد الأوروبي تبقى هناك العديد من التحفظات على سياساتها، سواء في الداخل أو الخارج، فيما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ناهيك عن الموقف من اللاجئين، وغيرها من القضايا التي تضعها أوروبا الموحدة بمثابة أولويات كبيرة بالنسبة لها، على حساب دول الجانب الغربي من القارة، في إطار محاولات "تطويق" موسكو، بينما أصبحت أوروبا الغربية بمفردها، دون دعم الحليف الأمريكي، تحت مطرقة الأزمات الكبيرة التي تواجهها، بدءً من الغذاء، مرورا بالطاقة، وحتى موجات التضخم الكبيرة التي باتت تضرب العالم بأسره، وما سوف يتبع ذلك من تطورات كبيرة، قد تؤدي إلى حالة من الغضب الشعبي، ربما يأكل الأخضر واليابس.
وهنا تصبح حالة الفوضى المحتملة جراء الأوضاع المتدهورة في القارة العجوز، أحد أهم التهديدات التي تواجه حالة "الوحدة الأوروبية"، في ضوء العديد من الإرهاصات، أبرزها ظهور الحركات الشعبوية، في العديد من دول القارة، خلال السنوات الماضية، ونجاحها غير المتوقع في تحقيق نتائج إيجابية، في العديد من المناسبات الانتخابية، وصلت ببعضها إلى مقاعد المعارضة المتقدمة، في ظل مواقفها المناوئة، لسياسات الحدود المفتوحة، والهجرة والتي تمثل الأساس الذي تقوم فكرة "الاتحاد"، خاصة وأن هذه السياسات أضرت بمواطني الدول، لصالح القادمين من الخارج، سواء من اللاجئين القادمين من مناطق الأزمات، أو حتى مواطني الدول "الأفقر" في القارة العجوز.
بالإضافة إلى استخدام ورقة الناتو، لحشد دول تلك المنطقة وراء أمريكا، على حساب الاتحاد الأوروبي، خاصة مع حالة التباعد الملحوظ بين الدول أعضاء المعسكر الغربي، سواء بسبب الخلافات مع واشنطن، من جانب، أو الانقسام فيما بينهم من جانب أخر.
التحالفات الجانبية داخل أوروبا الموحدة لم تقتصر على أوروبا الشرقية، وإنما تمتد إلى اقتراحات ظهرت إلى النور مؤخرا، منها الدعوة الفرنسية بتشكيل تحالف سياسي أوروبي، يمكنه ضم أوكرانيا وبريطانيا، في ظل تعثر انضمام كييف، والخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي يمثل بديلا لـ"أوروبا الموحدة"، رغم التأكيد الفرنسي أن اقتراحها لا يتعارض مع الحفاظ على بقاء الاتحاد الأوروبي.
بينما يبقى التحدي الثالث الذي يواجه القارة العجوز، هو عدم قدرتها على تحقيق أي اختراق سياسي فيما يتعلق بالتفاوض مع روسيا، إثر سياسة العقوبات التي انتهجتها منذ بداية الأزمة الراهنة، وهو ما يعكس حالة من العجز في تحقيق التأثير المطلوب في قضايا ترتبط بها جغرافيا، في المرحلة الراهنة، تزامنا مع التخلي الأمريكي عن الكيان القاري، على عكس الأوضاع في سنوات ما قبل ترامب، والتي ظهر فيها النفوذ الأوروبي واضحا في العديد من القضايا التي خرجت عن النطاق الإقليمي الأوروبي، منها على سبيل المثال الدور الأوروبي الكبير في الاتفاق النووي الإيراني، وكذلك ظهورها القوى في الشرق الأوسط، بمباركة واشنطن، مما يضفي انطباعا دوليا بأن دور الاتحاد الأوروبي يبقى مرهونا بحالة "الرضا" الأمريكي.
وهنا يمكننا القول بأن التحديات التي تواجه أوروبا الموحدة، ليست مجرد مع روسيا، باعتبارها الخصم التاريخي للغرب، وإنما الأمر يبدو أكثر تعقيدا، إثر حالة تبدو وكأنها "تحالف الخصوم والحلفاء"، لتقويض الدور الذي يلعبه هذا الكيان في المرحلة الراهنة، بينما تبقى القوى الرئيسية في القارة العجوز منشغلة إلى حد كبير بتنافساتها، التي قد تتحول إلى صراعات في المستقبل، لتصبح حالة الاتحاد في خطر حقيقي، ما لم تنجح القارة العجوز في انتشال نفسها من حالة التبعية التي هيمنت عليها لسنوات، عبر تبني نهجا أكثر استقلالية يقوم على تحقيق المصالح المشتركة لدول الاتحاد في المرحلة المقبلة