كتب/ أيمن بحر
الشيخ عبد الباسط عثمان
أولًا: المقصود بصلاة التراويح.
صلاة التراويح أو صلاة القيام: هي قيام شهر رمضان، وتصلى مثنى مثنى، والتراويح: جمع ترويحة، أي ترويحة للنفس، من الراحة، وهي زوال المشقة والتعب، والترويحة في الأصل: اسم للجلسة، وسميت الجلسة التي بعد أربع ركعات في ليالي رمضان بالترويحة للاستراحة، ثم سميت كل أربع ركعات ترويحة مجازًا، وسميت هذه الصلاة بالتراويح؛ لأنهم كانوا يطيلون القيام فيها، ويجلسون بعد كل أربع ركعات للاستراحة.
ثانيًا: حكم صلاة التراويح ووقتها.
اتفق العلماء على أن صلاة التراويح سنة في رمضان للرجال والنساء، وهي من أعلام الدين الظاهرة، وقد سنها رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ورغب فيها كما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"([1])، وعند مسلم عن أبي هريرة قال: كان رسولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُرغِّبُ في قيامِ رمضانَ من غيرِ أن يأمرَهم فيه بعزيمةٍ. فيقول: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلاَفَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا"([2]).
وقد صلى النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأصحابه صلاة التراويح في بعض الليالي، لكنه لم ترك ذلك أي الصلاة بهم لكنه لم يتركها؛ وذلك خشية من افتراضها عليهم، وهذا ما بينته السيدة عائشة- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- كما في الصحيحين: أَنَّ رسولَ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- صلَّى في المسجدِ ذاتَ ليلةٍ، فصلَّى بصلاتِه ناسٌ، ثم صَلَّى من القابلةِ، فكثُرَ الناسُ ثم اجتَمَعوا من الليلةِ الثالثةِ، أو الرابعةِ، فلم يخرُجْ إليهم رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، فلمَّا أصبحَ قال: قد رأيتُ الذي صنعتُم، فلمْ يمنعْني من الخروجِ إليكم إلَّا أنِّي خَشيتُ أنْ تُفرَضَ عليكم، قال: وذلِك في رمضانَ"([3]).
لكن بعد وفاة النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي زمن خلافة عمر بن الخطاب- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جمع الناس على صلاة التراويح في المسجد وعلى إمام واحد، عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال:" خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى المَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: "إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ، لَكَانَ أَمْثَلَ ثُمَّ عَزَمَ ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ، قَالَ عُمَرُ: "نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ"([4]).
ولم يكن ما فعله عمر- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إلا تحقيقًا للسنة، ولم يكن فعله من قبيل البدعة المنكرة؛ وذلك لأن ترك النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للصلاة بالصحابة كان لسبب وهو الخشية من اعتقاد فرضيتها، وقد زال هذا السبب، لذلك أجاب أبو حنيفة رحمه الله لمن سأله عن التراويح وما فعله عمر، فقال: (التراويح سنة مؤكدة، ولم يفعل ذلك عمر من تلقاء نفسه، ولم يكن فيه مبتدعًا، ولم يأمر به إلا عن أصل لديه، وعهد من رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولقد سن عمر هذا، وجمع الناس على أبي بن كعب، فصلاها جماعة، والصحابة متوافرون من المهاجرين والأنصار، وما رد عليه واحد منهم، بل ساعدوه ووافقوه وأمروا بذلك)([5]).
أما وقتها فمن بعد صلاة العشاء وقبل الوتر إلى طلوع الفجر؛ لأنها سنة تبع للعشاء فكان وقتها بعدها وقبل الوتر.
وهل تؤخر إلى آخر الليل أم تصلى في أوله؟
من المعلوم أن تأخير التراويح إلى ثلث الليل الأخير أفضل لكن هذ الأفضلية فيما لو كان الجميع في البلدة أو في المحلة يفعلون ذلك، ولم يكن في ذلك مشقة، أو تعطيل عن واجبات أخرى؛ لذلك فإن كانت صلاتها أول الليل مع الجماعة في المسجد، ونشاط من المصلين، وتمكين الناس من أداء واجباتهم في القيام بأعمالهم فهذا كله أفضل من تأخيرها إلى نصف الليل، وقد ذهب الحنابلة إلى أن صلاتها أول الليل أفضل؛ لأن الناس في عهد عمر بن الخطاب- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كانوا يقومون أول الليل، وقيل للإمام أحمد: يؤخر القيام أي في التراويح إلى آخر الليل؟ قال: سنة المسلمين أحب إلي)([6]).
وهل يجوز للمسافرين الذين يجمعون المغرب والعشاء جمع تقديم أن يصلوا التراويح بعد العشاء في وقت المغرب ؟
لا بأس بذلك؛ لأنهم صلوها بعد العشاء، كما أن وقت المغرب هو من الليل وليس من النهار.
ثالثًا: النداء لصلاة التراويح.
ليس للتراويح نداء خاص، ولا أذان ولا إقامة، ولم يثبت عن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عن أحد من صحابته فعل شيء من ذلك.
لكن ليس معنى أنه ليس للتراويح أذان ولا إقامة أن ينكر على تنبيه الناس للقيام للصلاة بأي لفظ أو جملة تعلم المصلين ببدء الصلاة، كقول الإمام مثلًا: قوموا إلى الصلاة، أو الصلاة أثابكم الله ونحو ذلك، وهذا ما قال به الشافعية حيث جوزوا النداء للصلوات غير المكتوبة التي تؤدى جماعة كالكسوف والاستسقاء والأعياد ونحوها؛ قياسًا على ما ثبت في الكسوف فيما أخرجه الشيخان من حديث عبد الله بن عمرو- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قال: "لَمَّا كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نُودِيَ: إِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ"([7]).
قال الشافعي- رحمه الله- ".. وقال الزهري: (وكان النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأمر في العيدين المؤذن أن يقول الصلاة جامعة) قال الشافعي: ولا أذان إلا للمكتوبة، فإنا لم نعلمه أذن لرسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا للمكتوبة، وأحب أن يأمر الإمام المؤذن أن يقول في الأعياد وما جمع الناس له من الصلاة: الصلاة جامعة، أو إن الصلاة، وإن قال: هلم إلى الصلاة لم نكرهه، وإن قال: حى على الصلاة فلا بأس، وإن كنت أحب أن يتوقى ذلك؛ لأنه من كلام الأذان، وأحب أن يتوقى جميع كلام الأذان)([8]).
يظهر مما تقدم: أن الممنوع هو الأذان، أما ألفاظ التنبيه للناس ببدء القيام للصلاة بأي صيغة وأي لفظ لا بأس بها، وإذا خشي الإمام اعتقاد الناس أن التنبيه عليهم بلفظ معين ثابت من السنة فلا يثبت على لفظ واحد.
رابعًا: عدد ركعات التراويح.
ما وردت به النصوص الصحيحة عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الأمر بقيام رمضان، والترغيب فيه من غير تخصيص بعدد؛ أما ما صلى به الصحابة في زمن عمر بن الخطاب- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فقد اختلفت فيه الرواية، فالجمهور على أنه صلى عشرين ركعة، وذلك لما رواه البيهقي وغيره من قيام الناس في زمن عمر بعشرين ركعة، وجمع عمر الناس على هذا العدد جمعًا مستمرًّا، ففي السنن الكبرى قال: "كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً، قَالَ: وَكَانُوا يَقْرَءُونَ بِالْمَئِينِ، وَكَانُوا يَتَوَكَّئُونَ عَلَى عُصِيِّهِمْ فِى عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ- رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْ شِدَّةِ الْقِيَامِ"([9]).
لكن هناك روايات أخرى بغير ذلك، ففي الموطأ للإمام مالك عن السائب بن يزيد قال: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب، وتميمًا الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، قال: وقد كان القاريء يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر)([10]).
ووفق البعض بين الخبرين بأن الصلاة في بداية الأمر كانت إحدى عشرة ركعة مع التطويل في القراءة، فلما شق ذلك على الناس خففوا في القراءة وزادوا في عدد الركعات.
وقد زاد البعض عددها إلى ست وثلاثين كما كان يفعلها أهل المدينة.
والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين، وبما توافقوا عليه، فإن صلوا بإحدى عشرة ركعة ثماني منها قيامًا وثلاث منها وترًا فلا بأس، وكان يفعله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما ورد ذلك عن السيدة عائشة عندما سئلت: كَيْفَ كَانَتْ صَلاَةُ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي رَمَضَانَ؟ قَالَتْ : "مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، فَلاَ تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا ، فَلاَ تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا.."([11])
وهناك روايات أخرى صحيحة تفيد أنه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يفعل غير ذلك، وتأول كثير من العلماء حديث عائشة المتقدم بأن ذلك كان الغالب في صلاته وليس معناه أنه لم يفعل غيره، قال النووي رحمه الله: (ولا تغتر بقولها: "كان يصلي" فإن المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين: أن لفظة (كان) لا يلزم منها الدوام ولا التكرار، وإنما هي فعل ماض يدل على وقوعه مرة، فإن دل دليل على التكرار عمل به، وإلا لا تقتضيه بوضعها)([12]).
خامسًا: الاستراحة بين كل ترويحتين.
اتفق الفقهاء على مشروعية الاستراحة بعد كل أربع ركعات؛ لأنه المتوارث عن السلف؛ حيث كانوا يطيلون القيام في التراويح، ويجلس الإمام والمأمومون بعد كل أربع ركعات، ولم يؤثر ذكر معين، ولا دعاء مخصوص فيها، ولو اشتغلوا بذكر أو تسبيح أودعاء أو عظة أو سكتوا فلا بأس بذلك كله، لكن يحظر من اللغو في المسجد.
سادسًا: التسليم في صلاة التراويح.
الأصل أن التسليم في صلاة التراويح بعد كل ركعتين؛ لأنها من صلاة الليل، فتكون مثنى مثنى، كما في الصحيحين: "صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى"؛ ولأن التسليم بعد كل ركعتين فيه تخفيف وتيسير، لكن لو صلاها بتسليمة واحدة أو بتسليمتين فالصلاة صحيحة لكنها مخالفة للسنة.
سابعًا: الجماعة في صلاة التراويح في المسجد.
الجماعة في صلاة التراويح في المساجد سنة باتفاق الفقهاء، لفعل النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندما صلى بالناس قبل أن يترك ذلك، ولفعل عمر ومن بعده من الخلفاء الراشدين، وما عليه المسلمون حتى يومنا هذا، وقد أصبحت من شعائر الدين وأعلامه التي ينبغي الحفاظ عليها.
ولو صلاها شخص منفردًا في بيته أو مع أهله فلا بأس، لكن بشرط: ألا تعطل المساجد، وأن ينشط في فعلها في بيته ولا يقعد عنها، وألا يكون التارك لها في المساجد ممن يقتدى به ويرجى من وجوده مع المسلمين في المساجد خير له ولهم من عظتهم ونصحهم ونحو ذلك، وألا يكون في المسجد الحرام أو المسجد النبوي من الزائرين لهما.
ثامنًا: القراءة وختم القرآن الكريم في التراويح.
من المستحب ختم القرآن الكريم كله في صلاة التراويح بأن يصلي كل ليلة بجزء، وهذا إن أطاقه الناس وارتضوه وإلا فيجوز أن يقرأ ما تيسر، ولو قرأ ما تيسر مع التدبر والتؤدة وحسن التلاوة ورعاية الأحكام فإنه يكون أفضل من قراءة الكثير مع الإساءة.
تنبيه بشأن ليلة القدر:
ليلة القدر كما ورد في القرآن الكريم هي خير من ألف شهر، ومن أحياها بالعبادة والقيام غفر له ما تقدم من ذنبه، وهناك معتقدات خاطئة، منها: أنها معينة في ليلة السابع والعشرين من الشهر، ولم يرد ذلك في حديث ثابت عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكل ما ورد أنها في العشر الأواخر من الليالي الوترية. ومنها: تخصيص هذه الليلة بحظ كبير من العبادة وإهمال الليالي الأخرى، ومنها أن البعض يعتقد أنه يكفيه المحافظة على القيام في هذه الليلة فنجد المساجد مكتظة بالمصلين، وكل يمسك مصحفه ويراجع ما تيسر له من القرآن الكريم، والبعض يعتقد أن ليلة القدر هي خاتمة الشهر وبمجرد انتهائها لا يحافظ على صلاة القيام في الليالي الباقية من شهر رمضان.
وهذا الاعتقاد خاطيء وخطيئة، ففضل ليلة القدر نعم ثابت، وشاءت حكمة الله سبحانه وتَعَالَى إخفاءها؛ ليجتهد الناس في الليالي كلها، ومع ذلك فثوابها لا يعطى إلا لمن قامها إيمانًا واحتسابًا، والإيمان هو التصديق الجازم بأنها حق وما أنزل فيها من قرآن حق، ومن أخبر بها حق، ومقتضيات هذا التصديق العمل، فالإيمان قول وعمل، أما الاحتساب فهو أن يعمل لله تَعَالَى لا رياء ولا شهرة، ويجب أن تكون مثل الليلة الفاصلة في حياة المسلمين، فهي الليلة التي أنزل فيها القرآن، ومن ثم على المسلمين أن يدركوا أن فضلها من فضل ما أنزل فيها، فإذا أدركنا فضلها وأحييناها فعلينا أن ندرك فضل ما أنزل فيها فنحيا به ونحييه.
المسألة الثانية: صلاة الوتر.
صلاة الوتر سنة باتفاق الفقهاء، ودل على ذلك ما أخرجه البخاري وغيره من حديث ابن عمر قال: "اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ وِتْرًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَ بِهِ"([13])، هذا يدل على الأمر بصلاة الوتر، والأمر محمول على الندب لا على الإيجاب، كما يدل الحديث أيضًا على أنها آخر صلاة بالليل.
أولًا: وقت صلاة الوتر ومقدارها وصفتها.
يصلى الوتر بعد صلاة العشاء، وفي رمضان يصلى بعد التراويح، ولو جمع بين المغرب والعشاء جمع تقديم جاز له الوتر بعد صلاة العشاء ولو في وقت المغرب.
أما مقدارها: فقد تعددت أحوال النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الوتر، فأوتر بواحدة، وبثلاث، وبخمس، وبسبع، وتسع، وإحدى عشرة، ومن ثم فجميع ما تقدم جائز.
ولو صلى الوتر ركعة واحدة فالأمر فيها واضح، لكن إن صلاه ثلاثًا، فله ثلاث صور: الأولى: أن يفصل الشفع بالسلام، ثم يصلي الركعة الثالثة بتكبيرة إحرام مستقلة. أي يصلي ركعتين يسلم منهما، ثم يصلي ثالثة بتكبيرة إحرام وتشهد وسلام. الثانية: أن يصلي الثلاث متصلة سردًا، أي بتشهد واحد وسلام واحد في نهاية الثلاث ركعات. الثالثة: أن يصليها كصلاة المغرب بتشهدين وسلام واحد.
ومثل ما قيل في الثلاث يقال في غيرها، فيجوز صلاة ركعتين ركعتين ثم صلاة ركعة، ويجوز سردها متصلة.
ثانيًا: ما يقرأ في صلاة الوتر بعد الفاتحة.
الأصل أنه يندب قراءة سورة الأعلى وسورة الكافرون في الشفع، ثم قراءة سورة الإخلاص في الوتر إن صلى ثلاثًا، لكن لا بأس بقراءة غيرها من سور القرآن.
ثالثًا: الجماعة في الوتر.
الوتر في رمضان تبع لصلاة التراويح، فيندب فعله في جماعة، ويجهر بالقراءة فيه، بخلاف الوتر في غير رمضان.
رابعًا: القتوت في صلاة الوتر.
ذهب كثير من الفقهاء إلى مشروعية القنوت في الوتر سواء في رمضان أم في غيره، في الركعة الأخيرة من الوتر، ويجوز فعله قبل الركوع منها وبعد القراءة، والأشهر أنه بعد الركوع، ويدعو بما يشاء.
تنبيه:
ظهرت عادة لبعض أئمة التراويح في رمضان بالتطويل الشديد في القنوت، والتزام السجع والتكلف فيه، وهذا كله ونحوه خلاف السنة، وفيه إشقاق على الناس فليحذر منه، وليحذر من انحراف قصد هؤلاء الأئمة في الدعاء إلى الشهرة ونحوها.
خامسًا: نقض الوتر.
من صلى الوتر ثم بدا له أن يصلي نفلًا فإن ذلك جائز بلا كراهة، كمن صلى مع الإمام التراويح وأوتر معه، وإذا أرد أن يصلي بعد الوتر فله عند الفقهاء طريقتان:
الأولى: أن يصلي شفعًا ما شاء ثم لا يوتر بعد ذلك.
وهو قول الجمهور، أخذ به الحنفية والمالكية والحنابلة، والمشهور عند الشافعية، ومروي عن أبي بكر، وسعد، وعمار، وابن عباس، وعائشة، ودليلهم قول عائشة- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وقد سئلت عن الذي ينقض وتره، فقالت: " ذَاكَ الَّذِي يَلْعَبُ بِوِتْرِهِ"([14])، واستدلوا أيضًا بحديث طلق بن علي "لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ"([15])، وفي سنن الترمذي عن أم سلمة: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ رَكْعَتَيْنِ"([16])، ويحمل قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرً" على الندب والاختيار؛ بدليل أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعل ذلك، وابن عمر راوي الحديث المتقدم كان يفعله.
الثانية: أن يبدأ نفله بركعة يشفع بها وتره، ثم يصلي شفعًا ما شاء ثم يوتر، وهو مروي عن عثمان، وعلي، وأسامة، وهو وجه للشافعية، ولعلهم ذهبوا إلى قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا"، وقد عرفنا أن هذا الأمر ليس على سبيل الإيجاب.
[1] - صحيح البخاري ( 1/22) صحيح مسلم ( 1/523)
[2] - صحيح مسلم ( 1/523)
[3] - صحيح البخاري ( 1/380) صحيح مسلم ( 1/524)
[4] - صحيح البخاري ( 2/707)
[5] - الاختيار لتعليل المختار ( 1/75)
[6] - المغني لابن قدامة ( 1/833)
[7] - صحيح البخاري، أَبْوَابُ الكُسُوفِ، بَابُ النِّدَاءِ بِالصَّلاَةُ جَامِعَةٌ فِي الكُسُوفِ، 1045
[8] - الأم ( 1/269) دار الفكر.
[9] - السنن الكبرى ( 2/496)
[10] - الموطأ ( 1/ 115)
[11] - صحيح البخاري ( 1/385) صحيح مسلم ( 1/509)
[12] - شرح النووي على صحيح مسلم ( 6/21) دار إحياء التراث العربي، بيروت .
[13] - صحيح البخاري ( 1/179).
[14] - السنن الكبرى للبيهقي ( 3/37)
[15] - سنن أبي داود ( 1/540)
[16] - سنن الترمذي ( 2/335)
شارك هذا المنشور حتي يعم النفع .